سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{يَكَادُ البرق} استئناف آخرُ وقع جواباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالُهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد ذلك {يَخْطَفُ أبصارهم} أي يختلِسُها ويستلبها بسرعة، وكاد من أفعال المقاربة وُضعت لمقاربة الخبر من الوجود لتآخذَ أسبابَه وتعاضِدَ مباديَه لكنه لم يوجد بعدُ لفقد شرطٍ أو لعُروض مانع، ولا يكون خبرُها إلا مضارعاً عارياً عن كلمة أن، وشذ مجيئه اسماً صريحاً كما في قوله:
فأُبْتُ إلى فهمٍ وما كِدْتُ آيبا ***
وكذا مجيئه مع أنْ حملاً لها على عسى في مثل قول رؤبة:
قد كاد من طول البِلى أن يُمْحَصَا ***
كما تحمل هي عليها بالحذف لما بينهما من المقارنة في أصل المقاربة وليس فيها شائبة الانشائية كما في عسى، وقرئ {يخطِف} بكسر الطاء و{يختطف} و{يَخَطف} بفتح الياء والخاء بنقل فتحة التاء إلى الخاء وإدغامها في الطاء، و{يِخِطف} بكسرهما على إتباع الياء الخاء، و{يُخَطِّف} من صيغة التفعيل و{يتخطف} من قوله تعالى: {وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم} كل ظرف وما مصدرية والزمان محذوف، أي كلَّ زمان إضاءةً، وقيل: ما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف، أي كل وقت أضاء لهم فيه والعامل في كلما جوابها، وهو استئناف ثالث، كأنه قيل: ما يفعلون في أثناء ذلك الهول، أيفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم أم لا، فقيل: كلما نوّر البرقُ لهم ممشىً ومسلكاً على أن أضاء متعدٍ والمفعول محذوف، أو كلما لمع لهم على أنه لازم، ويؤيده قراءة {كُلَّمَا أَضَاء} {مَّشَوْاْ فِيهِ} أي في ذلك المسلك أو في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطَف أبصارهم، وإيثارُ المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} أي خفي البرقُ واستتر، والمظلم وإن كان غيرَه، لكن لمّا كان الإظلامُ دائراً على استتاره أُسند إليه مجازاً تحقيقاً لما أريد من المبالغة في موجبات تخبُّطِهم، وقد جوز أن يكون متعدياً منقولاً من ظلم الليل. ومنه ما جاء في قول أبي تمام:
هما أظلما حاليَّ ثُمّتَ أجليا *** ظلامَيْهما عن وجهِ أمردَ أشيبِ
ويعضُده قراءة أُظلِم على البناء للمفعول {قَامُواْ} أي وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لخفقة أخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصِمُهم، وإيرادُ كلما مع الإضاءة وإذا مع الإظلام للإيذان بأنهم حِراصٌ على المشي، مترقبون لما يصححه، فكلما وجدوا فرصة انتهزوها، ولا كذلك الوقوف، وفيه من الدلالة على كمال التحير وتطاير اللب ما لا يوصف {وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} كلمة لو لتعليق حصولِ أمرٍ ماض هو الجزاءُ بحصول أمرٍ مفروض فيه هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء، ومن قضية مفروضية الشرطِ دلالتُها على انتفائه قطعاً، والمنازِعُ فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاءِ الجزاء فقد قيل وقيل.
والحق الذي لا محيد عنه أنه إن كان ما بينهما من الدوران كلياً أو جزئياً قد بُني الحكم على اعتباره فهي دالةٌ عليه بواسطة مدلولها الوضعيّ لا محالة، ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول، أما في مادة الدوران الكلي كما في قوله عز وجل: {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقولك: لو جئتني لأكرمتُك فظاهرٌ لأن وجودَ المشيئة علةٌ لوجود الهداية حقيقةً، ووجودَ المجيء علةٌ لوجود الإكرام ادعاءً، وقد انتفيا بحكم المفروضية فاقتضى معلولاهما حتماً، ثم إنه قد يساق الكلامُ لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين المذكورين وهو الاستعمال الشائعُ لكلمة لو، ولذلك قيل: هي لامتناع الثاني لامتناع الأول، وقد تساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهراً أو مسلّماً على انتفاء الأولِ لكونه خفياً أو متنازعاً فيه، كما في قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وفي قوله تعالى: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} فإن فسادهما لازمٌ لتعدد الآلهةِ حقيقةً وعدمُ سبقِ المؤمنين إلى الإيمان لازمٌ لخيريته في زعم الكفرة ولا ريبَ في انتفاء اللازمين، فتعين انتفاءُ الملزومين حقيقة في الأول وادعاءً باطلاً في الثاني ضرورةَ استلزامِ انتفاءِ اللازم لانتفاء الملزوم، لكن لا بطريق السببية الخارجية، كما في المثالين الأولين، بل بطريق الدلالةِ العقلية الراجعةِ إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول، ومن لم يَتَنَبَّه له زعَم أنه لانتفاء الأولِ لانتفاء الثاني.
وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمسُ لوُجد الضوء، فلأن الجزاءَ المنوطَ بالشرط الذي هو طلوعُها ليس وجودَ أي ضوء كان كضوء القمر المجامعِ لعدم الطلوع مثلاً، بل إنما هو وجودُ الضوءِ الخاصِّ الناشىء عن الطلوع، ولا ريب في انتفائه بانتفاءِ الطلوع، هذا إذا بُني الحكمُ على اعتبار الدوران، وأما إذا بني على عدمه فإما أن يعتبرَ هناك تحققُ مدارٍ آخرَ له أو لا، فإن اعتبر فالدلالةُ تابعةٌ لحال ذلك المدار، فإن كان بينه وبين انتفاءِ الأول منافاةٌ تُعيِّن الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلُع الشمسُ لوجد الضوء، فإن وجود الضوء وإن عُلِّق صورةً بعدم الطلوع لكنه في الحقيقة معلَّق بسبب آخرَ له، ضرورةَ أن عدم الطلوعِ من حيث هو ليس مداراً لوجود الضوء في الحقيقة، وإنما وضع موضعَ المدار لكونه كاشفاً عن تحقق مدارٍ آخر له، فكأنه قيل: لو لم تطلعِ الشمسُ لوجد الضوء بسبب آخرَ كالقمر مثلاً. ولا ريب في أن هذا الجزاءَ منتفٍ عند انتفاء الشرط لاستحالة وجودِ الضوء القمَري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاةٌ تعيِّن عدمَ الدلالة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في بنت أبي سلمة:
«لو لم تكن ربيبتي في حِجْري ما حلَّت لي لأنها ابنة أخي من الرضاعة» فإن المدار المعتبرَ في ضمن الشرط أعني كونها ابنةِ أخيه عليه السلام من الرضاعة غيرُ منافٍ لانتفائه الذي هو كونُها ربيبتَه عليه السلام، بل مجامعٌ له، ومن ضرورته مجامعةُ أثرَيهما أعني الحرمة الناشئةَ من كونها ربيبته عليه السلام، والحرمةَ الناشئة من كونها ابنةَ أخيه من الرضاعة. وإن لم يعتبر هناك تحققُ مدارٍ آخرَ بل بني الحكمُ على اعتبار عدمِه فلا دلالة لها على ذلك أصلاً.
كيف لا ومساق الكلام حينئذ لبيانِ ثبوتِ الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليُعلم ثبوتُه عند وقوعِ ما لا ينافيه بالطريق الأولى، كما في قوله عز وجل: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ} وقوله عليه السلام: «لو كان الإيمانُ في الثريا لناله رجالٌ من فارس» وقولِ علي رضي الله عنه: «لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً» فإن الأجزيةَ المذكورة قد نيطت بما ينافيها ويستدعي نقائضَها، إيذاناً بأنها في أنفسها بحيث يجب ثبوتُها مع فرض انتفاءِ أسبابها أو تحققِ انتفاء أسبابها، فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية، في مثل قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ولها تفاصيلُ وتفاريعُ حررناها في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَوْ كُنَّا كارهين} وقول عمرَ رضي الله عنه: «نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخَفِ الله لم يعصِه» إنْ حُمل على تعليق عدمِ العصيان في ضمن عدمِ الخوف بمدارٍ آخرَ نحوُ الحياء والإجلالِ وغيرهما مما يجامِعُ الخوفَ كان من قبيل حديث ابنةِ أبي سلمة، وإن حُمل بيانُ استحالة عصيانه مبالغةً كان من هذا القبيل، والآية الكريمة، واردة على الاستعمال الشائعِ مفيدةٌ لكمال فظاعة حالِهم وغايةِ هول ما دهَمهم من المشاقّ، وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلقت مشيئةُ الله تعالى بإزالة مشاعرِهم لزالت، لتحقق ما يقتضيه اقتضاءً تاماً، وقيل: كلمة {لو} فيها لربط جزائها بشرطِها مجردةً عن الدلالة على انتفاء أحدِهما لانتفاء الآخر بمنزلة كلمة أن، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ جرياً على القاعدة المستمرة فإنها إذا وقعت شرطاً وكان مفعولُها مضموناً للجزاء فلا يكاد يُذكر إلا أن يكون شيئاً مستغرباً كما في قوله:
فلو شئتُ أن أبكِي دماً لبَكَيْتُه *** عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسعُ
أي لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل، ولكن لم يشأ لما يقتضيه من الحِكَم والمصالح، وقرئ {لذهب بأسماعهم} على زيادة الباء كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} الآية، والإفرادُ في المشهورة، لأن السمع مصدر في الأصل، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها من الجمل الاستئنافية، وقيل: على كلما أضاء الخ، وقوله عز وجل: {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} تعليلٌ للشرطية وتقريرٌ لمضمونها الناطقِ بقدرته تعالى على إزالة مشاعرِهم بالطريق البرهاني، والشيءُ بحسب مفهومِه اللغوي يقعُ على كل ما يصِحّ أن يُعلم ويُخبَرَ عنه كائناً ما كان، على أنه في الأصل مصدر شاء أُطلِقَ على المفعول واكتُفي في ذلك باعتبار تعلقِ المشيئةِ به من حيث العلمُ والإخبارُ عنه فقط، وقد خصَّ ههنا بالممكن موجوداً كان أو معدوماً بقضية اختصاصِ تعلقِ القدرة به، لما أنه عبارةٌ عن التمكين من الإيجاد والإعدام الخاصَّيْن به، وقيل: هي صفةٌ تقتضي ذلك التمكينَ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأْ لم يفعل، والقديرُ هو الفعّال لكل ما يشاء كما يشاء، ولذلك لم يوصَفْ به غيرُ الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومعنى قدرتِه تعالى على الممكن الموجود حالَ وجوده أنه إن شاء إبقاءَه على الوجود أبقاه عليه، فإن علةَ الوجود هي علةُ البقاء، وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: {رَبّ العالمين} وإن شاء إعدامَه أعدمه، ومعنى قدرته على المعدوم حالَ عدمِه أنه إن شاء إيجادَه أوجده وإن لم يشأْ لم يوجِدْه، وقيل: قدرةُ الإنسان هيئةٌ بها يتمكن من الفعل والترك، وقدرةُ الله تعالى عبارة عن نفي العجز، واشتقاقُ القدرة من القَدْر لأن القادر يوقع الفعل بقدْر ما تقتضيه إرادته أو بقدر قوتِه، وفيه دليل على أن مقدورَ العبد مقدورٌ لله تعالى حقيقة، لأنه شيء وكلُّ شيء مقدورٌ له تعالى.
واعلم أن كلَّ واحد من التمثيلين وإن احتمل أن يكون من قبيل التمثيل المفرق كما في قوله:
كأن قلوبَ الطير رَطْباً ويابسا *** لدى وَكرها العُنّابُ والحَشَفُ البالي
بأن يُشبَّه المنافقون في التمثيل الأول بالمستوقدين وهُداهم الفطريُّ بالنار وتأييدُهم إياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها وتمكنِهم التامِّ من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم وإزالته بإذهاب النور الناري، وأخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلماتِ الكثيفة وبقائهم فيها، ويشبهوا في التمثيل الثاني بالسابلة، والقرآنُ وما فيه من العلوم والمعارفِ التي هي مدارُ الحياة الأبدية بالصيب الذي هو سببُ الحياة الأرضيةِ وما عَرَض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعدِ والبرقِ وتصامِّهم عما يقرَع أسماعَهم من الوعيد بحال من يَهُولُه الرعدُ والبرق فيخاف صواعقَه فيسدُّ أذنه عنها، ولا خلاصَ له منها، واهتزازُهم لِمَا يلمع لهم من رَشَدٍ يدركونه أو رِفد يُحرِزونه بمشيهم في مَطْرَحِ ضوء البرق، كلما أضاء لهم، وتحيُّرهم في أمرهم حين عنَّ لهم مصيبةٌ بوقوفهم إذا أظلم عليهم.
لكن الحملَ على التمثيل المركب الذي لا يعتبر فيه تشبيهُ كلِّ واحدٍ من المفردات الواقعة في أحد الجانبين بواحدٍ من المفردات الواقعة في الجانب الآخر على وجه التفصيل، بل يُنتزع فيه من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه هيئةٌ فتُشبَّهُ بهيئةٍ أخرى منتزعةٍ من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه به بأن يُنتزع من المنافقين وأحوالهم المفصلة في كل واحد من التمثيلين هيئةٌ بحِيالها فتُشبَّه كلَّ واحدةٍ من الأوليين بما يضاهيها من الأُخْرَيين هو الذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعيه فخامةُ شأنه الجليلِ لاشتماله على التشبيه الأولِ إجمالاً مع أمرٍ زائدٍ هو تشبيهُ الهيئة بالهيئة وإيذانُه بأن اجتماعَ تلك المفردات مستتبعٌ لهيئة عجيبةٍ حقيقةٍ بأن تكون مثلاً في الغرابة.


{ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} إثرَ ما ذكر الله تعالى من علو طبقة كتابه الكريم وتحزُّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ: مؤمنةٍ به محافظةٍ على ما فيه من الشرائع والأحكام. وكافرةٍ قد نبذتْه وراءَ ظهرِها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبةٍ بينهما بالمخادعة والنفاق، ونعْتِ كل فرقةٍ منها بما لَها من النعوت والأحوال وبين ما لهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزاً لهم إلى الإصغاء وتوجيهاً لقلوبهم نحو التلقي، وجبراً لما في العبادة من الكُلفة بلذة الخطاب، فأمرهم كافةً بعبادته ونهاهم عن الإشراك به، و*يا* حرفٌ وضع لنداء البعيد، وقد ينادى به القريبُ تنزيلاً له منزلةَ البعيد إما إجلالاً كما في قول الداعي: يا ألله ويا ربِّ، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد استقصاراً لنفسه واستبعاداً لها من محافل الزلفى ومنازلِ المقربين، وإما تنبيهاً على غفلته وسوءِ فهمِه وقد يُقصد به التنبيهُ على أن ما يعقبُه أمرٌ خطير يعتنى بشأنه، و*أيُّ* اسمٌ مبهمٌ جعل وصلُه إلى نداء المعرف باللام لا على أنه المنادى أصالةً بل على أنه صفةٌ موضحة له مُزيلة لإبهامه، والتُزم رفعُه مع انتصاب موصوفه محلاً إشعاراً بأنه المقصود بالنداء. وأُقحمَتْ بينهما كلمةُ التنبيه تأكيداً لمعنى النداء وتعويضاً عما يستحقه أي من المضاف إليه، ولِما ترى من استقلالِ هذه الطريقة بضروبٍ من أسباب المبالغةِ والتأكيد كثُر سلوكُها في التنزيل المجيد، كيف لا وكلُّ ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوبٌ جليلةٌ حقيقةٌ بأن تقشعِرَّ منها الجلودُ وتطمئنَّ بها القلوبُ الأبية، ويتلَقَّوْها بآذانٍ واعية، وأكثرهم عنها غافلون، فاقتضى الحالُ المبالغةَ والتأكيدَ في الإيقاظ والتنبيه والمرادُ بالناس كافةُ المكلفين الموجودين في ذلك العصر، لما أن الجموعَ وأسماءَها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناءِ منها والتأكيدِ بما يفيد العمومَ كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} واستدلالِ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعاً ذائعاً، وأما مَنْ عداهم ممن سيوجد منهم فغيرُ داخلين في خطاب المشافهة، وإنما دخولُهم تحت حُكْمِه لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم، ضرورةَ أن مقتضى خطابه وأحكامِه شاملٌ للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة، ولا يَقدح في العموم ما رُوي عن علقمةَ والحسنِ البصري من أن كلَّ ما نزل فيه {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} فهو مكي، إذ ليس من ضرورة نزولِه بمكة شرفها الله تعالى اختصاصُ حُكمِه بأهلها ولا من قضية اختصاصِه بهم اختصاصُه بالكفار، إذ لم يكن كلُّ أهلها حينئذٍ كفرةً، ولا ضيرَ في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمورَ به القدرُ المشترك الشاملُ لإنشاء العبادةِ والثباتِ عليها والزيادةِ فيها، مع أنها متكررة حسب تكررِ أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعني الإيمان لأن الأمرَ بها منتظِمٌ للأمر بما لا تتم إلا به وقد عُلم من الدين ضرورةً اشتراطُها به فإن أمرَ المحْدِث بالصلاة مستتبع للأمرِ بالتوضّي لا محالة.
وقد قيل: المراد بالعبادة ما يعُمّ أفعالَ القلبِ أيضاً لما أنها عبارةٌ عن غاية التذلُّلِ والخضوعِ. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد، وقيل معنى اعبدوا: وحِّدوا وأطيعوا، ولا شك في كون بعضٍ من الفِرْقتين الأخيرتين ممن لا يُجدي فيهم الإنذارُ بموجب النصِّ القاطعِ، لما أن الأمرَ لقطع الأعذار ليس فيه تكليفُهم بما ليس في وُسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلاً، إذ لا قطعَ لأحدٍ منهم بدخوله في حكم النص قطعاً، وورد النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا أن كونَهم كذلك لورود النص بذلك، فلا جبر أصلاً.
نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجهٌ لطيفٌ ستقف عليه عند قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الأمرِ بالإشعار بعلّيتها للعبادة {الذى خَلَقَكُمْ} صفة أُجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل إثرَ التعليل وقد جُوِّز كونُها للتقييد والتوضيح بناءً على تخصيص الخطاب بالمشركين، وحملِ الربِّ على ما هو أعمُّ من الرب الحقيقي، والآلهة التي يسمونها أرباباً، والخلق إيجاد الشيء على تقديرٍ واستواءٍ، وأصله التقدير، يقال: خلق النعلَ أي قدَّرها وسواها بالمقياس، وقرئ {خلقكم} بإدغام القاف في الكاف {والذين مِن قَبْلِكُمْ} عطفٌ على الضمير المنصوب ومتممٌ لما قصد من التعظيم والتعليل، فإن خلقَ أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم، ومن ابتدائية متعلقةٌ بمحذوف أي كانوا من زمان قبلَ زمانكم، وقيل: خلقَهم من قبلِ خلقِكم فحُذف الخلقُ وأقيم الضميرُ مُقامَه، والمرادُ بهم مَنْ تقدّمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عمومِ الخطابِ بيانُ شمولِ خلقِه تعالى للكل، وتخصيصُه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرضِ لخلقِ مَنْ عداهم من معاصريهم، وإخراجُ الجملةُ مُخرجَ الصلةِ التي حقُها أن تكون معلومةَ الانتساب إلى الموصول عندهم أيضاً مع أنهم غيرُ معترفين بغاية الخلق وإن اعترفوا بنفسه كما ينطِق به قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} للإيذان بأن خلقهم للتقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحدٍ إنكارُه، وقرئ {وخلق مَنْ قبلَكم}، وقرئ {والذين مَنْ قبلكم} بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيداً كإقحام اللام بين المضافين في لا أبا لك، أو بجعله موصوفاً بالظرف خبراً لمبتدأ محذوف، أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاءُ توقع أمرٍ مترددٍ بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول إما محبوبٍ فيسمى ترجياً، أو مكروهٍ فيسمَّى إشفاقاً، وذلك المعنى قد يعتبر تحققُه بالفعل إما من جهة المتكلم كما في قولك: لعل الله يرحمني وهو الأصلُ الشائعُ في الاستعمال.
لأن معانيَ الانشاءاتِ قائمةٌ به وإما من جهة المخاطب تنزيلاً له منزلةَ المتكلم في التلبّس التام بالكلام الجاري بينهما، كما في قوله سبحانه: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} وقد يعتبر تحققُه بالقوة بضربٍ من التجوز إيذاناً بأن ذلك الأمرَ في نفسه مَئنّةٌ للتوقع متصفٌ بحيثية مصححةٍ له من غير أن يعتبر هناك توقعٌ بالفعل من متوقَعٍ أصلاً.
فإن روعِيَتْ في الآية الكريمة جهةُ المتكلم يستحيلُ إرادةُ ذلك المعنى لامتناع التوقعِ من علاّم الغيوب عز وجل فيُصار إما إلى الاستعارة بأن يُشبَّه طلبُه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنةً لها لتعاضُد أسبابها برجاء الراجي من المرجوَّ منه أمراً هيِّنَ الحصول في كون متعلَّقِ كلَ منهما متردداً بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول، فيستعار له كلمةُ لعل استعارةً تبعية حرفيةً للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقُربِ المطلوب من الوقوع، وإما إلى التمثيل بأن يلاحَظَ خلقُه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبُه إياها منهم وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها، ويُنتزَعُ من ذلك هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئاً سهلَ المنال، فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية، فيكون هناك استعارةٌ تمثيلية قد صُرِّح من ألفاظها بما هو العُمدة في انتزاع الهيئةِ المشبَّه بها أعني كلمةَ الترجي، والباقي منويٌّ بألفاظٍ متخيَّلة بها يحصُل التركيبُ المعتبرُ في التمثيل كما مر مراراً، وأما جعلُ المشبهِ إرادتَه تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمرٌ مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلّفِ المراد عن إرادتِه تعالى، فالجملةُ حالٌ إما من فاعل خلقكم أي طالباً منكم التقوى أو من مفعوله، وما عُطف عليه بطريق تغليبِ المخاطبين على الغائبين، لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوباً منكم التقوى، أو علةٌ له، فإن خلقَهم على تلك الحال في معنى خلقِهم لأجل التقوى، كأنه قيل: خلقكم لتتقوا، أو كي تتقوا، إما بناءً على تجويز تعليلِ أفعاله تعالى بأغراضٍ راجعةٍ إلى العباد كما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنة، وإما تنزيلاً لترتُّب الغاية على ما هي ثمرةٌ له منزلةَ ترتبِ الغرض على ما هو غرضٌ له، فإن استتباعَ أفعاله تعالى لغاياتِ ومصالحَ متقنةٍ جليلة من غير أن تكون هي علةٌ غائيةٌ لها بحيث لولاها لما أَقدَم عليها مما لا نزاع فيه، وتقييدُ خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عِلّيته للمأمورِ به وتأكيدِها، فإن إتيانَهم بما خُلقوا له أدخَلُ في الوجوب، وإيثارُ تتقون على تعبُدون مع موافقته لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} للمبالغة في إيجابِ العبادةِ والتشديدِ في إلزامها، لما أن التقوى قُصارى أمرِ العابد ومنتهى جُهده، فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزمَ، والإتيانُ به أهونَ.
وإن روعيت جهةُ المخاطبِ فلعل في معناها الحقيقي، والجملة حالٌ من ضمير اعبدوا، كأنه قيل: اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زُمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح.

بيان المراد بالتقوى:
على أن المرادَ بالتقوى مرتبتُها الثالثة، التي هي التبتلُ إلى الله عز وجل بالكلية، والتنزُّه عن كل ما يشغل سرَّه عن مراقبته، وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافس فيها المتنافسون، وبالانتظام القدرَ المشتركَ بين إنشائه والثباتِ عليه ليرتجيَه أربابُ هذه المرتبة وما دونها من مرتبتي التوقي عن العذاب المخلد، والتجنّبِ عن كل ما يُؤثم من فعل أو تركٍ كما مر في تفسير المتقين.
ولعل توسيطَ الحال من الفاعل بين وصْفي المفعول لما في التقديم من فوات الإشعارِ بكون الوصفِ الأول معظمَ أحكام الربوبية، وكونِه عريقاً في إيجاب العبادة وفي التأخير من زيادة طول الكلام، هذا على تقدير اعتبارِ تحققِ التوقعِ بالفعل، فأما إن اعتُبر تحققُه بالقوة فالجملةُ حال من مفعول خلقكم، وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وإياهم حالَ كونكم جميعاً بحيث يرجو منكم كلُّ راج أن تتقوا، فإنه سبحانه وتعالى لما بَرَأهم مستعدين للتقوى، جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية، كان حالهم بحيث يرجو منهم كلُّ راجٍ أن يتقوا لا محالة، وهذه الحالة مقارنةٌ لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعاً.
واعلم أن الآية الكريمةَ مع كونها بعبارتها ناطقةً بوجوب توحيده تعالى وتحتّم عبادتِه على كافة الناس مرشدةٌ لهم بإشارتها إلى أن مطالعةَ الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاقِ مما يقضي بذلك قضاءً متقناً، وقد بين فيها أولاً من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلقِ أسلافِهم لما أنه أقوى شهادةً وأظهرُ دلالة، ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل:


{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً} وهو في محل النصب على أنه صفة ثانيةٌ لربكم، موضحة أو مادحة، أو على تقدير أخُص أو أمدَح، أو في محل الرفع على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ، قال ابن مالك: التُزم حذفُ الفعل في المنصوب على المدح إشعاراً بأنه إنشاء كما في المنادى، وحُذف المبتدأ في المرفوع إجراءً للوجهين على سَننٍ واحد، وأما كونُه مبتدأً خبرُه فلا تجعلوا كما قيل، فيستدعي أن يكونَ مناطُ النهي ما في حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلقِ مَنْ قبلهم مدخلٌ في ذلك مع كونه أعظمَ شأناً، وجعل بمعنى صيّر، والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: هي بمعنى خلق، وانتصابُ الثاني على الحالية والظرفُ متعلقٌ به على التقديرين، وتقديمُه على المفعول الصريح لتعجيل المسَرَّة ببيان كون ما يعقُبه من منافع المخاطبين، وللتشويق إليه، لأن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما عند الإشعار بمنفعته تبقى مترقبةً له، فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكن، أو لما في المؤخَّر وما عطف عليه من نوع طول. فلو قدُم لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم، ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضَها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوبَ، وجعلها متوسطةً بين الصلابة واللين صالحةً للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونُها سطحاً حقيقياً، فإن كرويةَ شكلِها مع عظم جِرْمها مصححٌ لافتراشها، وقرئ {بساطاً} و{مِهاداً}.
{والسماء بِنَاء} عطفٌ على المفعولين السابقين، وتقديمُ حالِ الأرض لما أن احتياجَهم إليها وانتفاعَهم بها أكثرُ وأظهر، أي جعلها قُبة مضروبةً عليكم، والسماءُ اسم جنسٍ يُطلق على الواحد والمتعدد، أو جمع سماوة أو سماءة، والبناءُ في الأصل مصدرٌ سُمِّي به المبنيُّ بيتاً كان أو قُبةً أو خِباءً، ومنه قولُهم: بنى على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأةً ضربوا عليها خِباءً جديداً.
{وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} عطفٌ على جعل أي أنزل من جهتها، أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، كما رُوي ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المرادُ بالسماء جهةُ العلو كما ينبىء عنه الإظهارُ في موضع الإضمار، وهو على الأولين لزيادة التقرير، و{من} لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول أي كائناً من السماء، قُدِّم عليه لكونه نكرةً، وأما تقديمُ الظرفِ على الوجه الأول مع أن حقه التأخيرُ عن المفعول الصريح فإما لأن السماءَ أصلُه ومبدؤه، وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظامٍ بينه وبين قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ} أي بسبب الماء {مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ}.
وذلك بأن أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلة وفي الأرض قوةً منفعلة، فتولَّد من تفاعُلِهما أصنافُ الثمار، أو بأن أجرى عادتَه بإفاضة صورِ الثمار وكيفيتها المخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثرَ في الحقيقة قدرتُه تعالى ومشيئتُه، فإنه تعالى قادر على أن يوجِدَ جميعَ الأشياء بلا مباد وموادَّ كما أبدع نفوسَ المبادىءِ والأسباب، لكن له عز وجل في إنشائها متقلبةً في الأحوال، ومتبدلةً في الأطوار من بدائعَ حِكَمٌ باهرةٌ تُجَدِّدُ لأولي الأبصار عِبراً ومزيدَ طُمَأنينة إلى عظيم قدرتِه ولطيفِ حكمتِه ما ليس في إبداعها بغتة، و{من} للتبعيض لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} ولوقوعها بين مُنكَّرين، أعني ماءً ورزقاً كأنه قيل: وأنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم، وهكذا الواقعُ إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء، ولا أخرج من الأرض كل الثمرات، ولا جعل كلَّ المرزوق ثماراً، أو للتبيين، ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق، ومن الثمرات بيانٌ له، أو حال منه كقولك: أنفقت من الدراهم ألفاً، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج، لأنه بمعنى رزق.
وإنما شاع ورودُ الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضعُ كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة في قولك: أدركتْ ثمرةُ بستانه، ويؤيده القراءة على التوحيد، أو لأن الجموعَ يقعُ بعضها موقعَ بعض، كقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ} وقوله تعالى: {ثلاثة قُرُوء} أو لأنها مُحلاة باللام خارجةٌ عن حد القِلة، واللامُ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرزقا على تقدير كونه بمعنى المرزوق، أي رزقاً كائناً لكم، أو دِعامةً لتقوية عمل رزقاً على تقدير كونِه مصدراً، كأنه قيل: رزقاً إياكم.
{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} إما متعلقٌ بالأمر السابق مترتِّبٌ عليه، كأنه قيل: إذا أمرتم بعبادة مَنْ هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكاً، وإنما قيل: أنداداً باعتبار الواقع، لا لأن مدارَ النهي هو الجمعية، وقرئ {نِدّا}، وإيقاعُ الاسم الجليل موقعَ الضمير لتعيين المعبودِ بالذاتِ إثرَ تعيينه بالصفات، وتعيينِ الحُكمِ بوصف الألوهية التي عليها يدور أمرُ الوحدانية واستحالةُ الشِّرْكة، والإيذانِ باستتباعها لسائر الصفات، وإما معطوفٌ عليه كما في قوله تعالى: {اعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} والفاء للإشعار بعِلّية ما قبلها من الصفات المُجراة عليه تعالى للنهي أو الانتهاء أو لأن مآلَ النهْي هو الأمرُ بتخصيص العبادة به تعالى، المترتبُ على أصلها، كأنه قيل: اعبدوه فخُصُّوها به، والإظهارُ في موضع الإضمار لما مر آنفاً، وقيل: هو نفيٌ منصوبٌ بإضمار أن جواباً للأمر، ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سبباً للثاني. ولا ريب في أن العبادة لا تكون سبباً للتوحيد، الذي هو أصلُها ومبناها.
وقيل: هو منصوبٌ بلعل نصبَ {فَأَطَّلِعَ} في قوله تعالى: {لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب * أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى}
أي خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تُشْبِهوه بخلقه، وحيث كان مدارُ هذا النصب تشبيهَ لعل في بُعْد المرجوِّ بليت كان فيه تنبيهٌ على تقصيرهم بجعلهم المرجوِّ القريبَ بمنزلة المتمنى البعيد، وقيل: هو متعلِّق بقوله تعالى: {الذى جَعَلَ} الخ، على تقدير رفعِه على المدح، أي هو الذي خصّكم بهذه الآياتِ العظامِ والدلائل النيِّرة، فلا تتخذوا له شركاءَ، وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلقِ أسلافِهم بمعزل من مناطية النهي مع عراقتهما فيها. وقيل: هو خبرٌ للموصول بتأويل مَقولٍ في حقه، وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش في تنزيل الاسم الظاهرِ منزلةَ الضمير كما في قولك: زيدٌ قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيتَه.
والند المثل المساوي من ندّ ندُوداً إذا نفر، ونادَدْتُه خالفته، خُص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوي بالمماثل في المقدار، وتسميةَ ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى في صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها، وسمَّوْها آلهةً شابهتْ حالُهم حالَ من يعتقد أنها ذواتٌ واجبةُ بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأسَ الله عز وجل، وتمنحهم ما لم يُرد الله تعالى بهم من خير، فتهكّمٌ بهم، وشُنِّع عليهم أن جعلوا أنداداً لمن يستحيل أن يكون له ندٌّ واحد وفي ذلك قال موحِّد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل:
أربّاً واحداً أم ألفَ رب *** أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ
تركتُ اللاتَ والعزّى جميعا *** كذلك يفعل الرجلُ البصير
وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهي من قُبح المنهي عنه ووجوبِ الاجتنابِ عنه، ومفعول تعلمون مطروحٌ بالكلية كأنه قيل: لا تجعلوا ذلك فإنه قبيحٌ واجبُ الاجتناب عنه، والحال أنكم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمورِ وإصابة الرأي، أو مقدرٌ حسبما يقتضيه المقام، نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك، أو تعلمون أنه لا يماثله شيء، أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو تعلمون أنها لا تفعل مثلَ أفعاله كما في قوله تعالى: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء} أو غير ذلك.
وحاصلُه تنشيطُ المخاطبين وحثُّهم على الانتهاء عما نُهوا عنه، هذا هو الذي يستدعيه عمومُ الخطاب في النهي بجعل المنهي عنه القدرَ المشتركَ المنتظِمَ لإنشاء الانتهاءِ كما هو المطلوبُ من الكفرة، وللثبات عليه كما هو شأنُ المؤمنين حسبما مر مثلُه في الأمر، وأما صرفُ التقييد إلى نفس النهي فيستدعي تخصيصَ الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصرِ النهي على حالة العلمِ ضرورةَ شمولِ التكليفِ للعالم والجاهلِ المتمكنِ من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة في التوبيخ والتقريع، بناءً على أن تعاطيَ القبائحِ من العالمِين بقُبحها أقبحُ وذلك إنما يُتصور في حق الكفرة، فمَنْ صرَفَ التقييدَ إلى نفس النهي مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضاً فقد نأى عن التحقيق.
إن قلت: أليس في تخصيصه بالكفرة في الأمر والنهي خلاصٌ من أمثال ما مر من التكلفات وحسنُ انتظامٍ بين السباقِ والسياق، إذ لا محيدَ في آية التحدي من تجريد الخطابِ، وتخصيصُه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رِباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي؟ قلت: بلى إنه وجهٌ سَرِيٌّ، ونهج سوي، لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَّت قدمَه عليه، فتأمل.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10